الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع أخيها لو انفردت معه، فوجب لهما الثلثان {وَلِأَبَوَيْهِ} الضمير للميت. و{لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا} بدل من {لِأَبَوَيْهِ} بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس، لكان ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل:ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت: فهلا قيل:ولكل واحد من أبويه السدس: وأى فائدة في ذكر الأبوين أوّلا، ثم في الإبدال منهما؟ قلت:لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير.والسدس: مبتدأ، وخبره: لأبويه. والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة {السُّدُسُ} بالتخفيف، وكذلك الثلث والربع والثمن. والولد: يقع على الذكر والأنثى، ويختلف حكم الأب في ذلك. فإن كان ذكرًا اقتصر بالأب على السدس، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس.فإن قلت: قد بين حكم الأبوين في الإرث مع الولد ثم حكمهما مع عدمه، فهلا قيل: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. وأى فائدة في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَواهُ}؟قلت: معناه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب، فلأمه الثلث مما ترك، كما قال: {لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج، لا ثلث ما ترك، إلا عند ابن عباس. والمعنى: أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قلت: ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة، فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني: أن الأب أقوى في الإرث من الأم، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة، وجامعا بين الأمرين، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس. وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم.فإن قلت: فكيف صحّ أن يتناول الإخوة الأخوين، والجمع خلاف التثنية؟ قلت: الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالإخوة عليه. وقرئ: فلإمّه، بكسر الهمزة اتباعا للجرّة: ألا تراها لا تكسر في قوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقرئ {يُوصِي بِها} بالتخفيف والتشديد. و{يُوصِي بِها} على البناء للمفعول مخففا: فإن قلت: ما معنى أو؟قلت: معناها الإباحة: وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. فإن قلت: لم قدّمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة أو للتسوية بينهما في الوجوب، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله: {آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ} أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمّن أوصى منهم أمّن لم يوص؟ يعنى أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا، ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبًا في الصورة، إلا أنه فان، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى. وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه، سأل أن يرفع إليه ابنه.فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا. وقيل: قد فرض اللَّه الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل: الأب يجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج، وكذلك الابن إذا كان محتاجا فهما في النفع بالنفقة لا يدرى أيهما أقرب نفعا. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له، لأن هذه الجملة اعتراضية. ومن حق الاعتراضى أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه، والقول ما تقدم {فَرِيضَةً} نصبت نصب المصدر المؤكد، أي فرض ذلك فرضًا {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا} بمصالح خلقه {حَكِيمًا} في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذى كلالة. كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوى قرابتي. ويجوز أن تكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق. فإن قلت: فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فعلام تنصبها؟ قلت: على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره لأجلها، فإن قلت: فان جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث، فما وجهه؟ قلت: الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. فان قلت: فالضمير في قوله: {فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا} إلى من يرجع حينئذ؟قلت: إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته، وعلى الأول إليهما. فان قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر الأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. وعن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه، أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيى، فان كان صوابا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان واللَّه منه بريء.الكلالة: ما خلا الولد والوالد. وعن عطاء والضحاك: أنّ الكلالة هو الموروث. وعن سعيد ابن جبير: هو الوارث. وقد أجمعوا على أنّ المراد أولاد الأم. وتدل عليه قراءة أبىّ: وله أخ أو أخت من الأمّ. وقراءة سعد بن أبى وقاص: وله أخ أو أخت من أم. وقيل: إنما استدل على أن الكلالة هاهنا الإخوة للأم خاصة بما ذكر في آخر السورة من أنّ للأختين الثلثين وأنّ للإخوة كل المال، فعلم هاهنا- لما جعل للواحد السدس، وللاثنين الثلث، ولم يزادوا على الثلث شيئًا- أنه يعنى بهم الإخوة للأم، وإلا فالكلالة عامة لمن عدا الولد والوالد من سائر الإخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات وغيرهم {غَيْرَ مُضَارٍّ} حال، أي يوصى بها وهو غير مضارّ لورثته وذلك أن يوصى بزيادة على الثلث، أو يوصى بالثلث فما دونه، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا وجه اللَّه تعالى. وعن قتادة: كره اللَّه الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه.وعن الحسن: المضارة في الدين أن يوصى بدين ليس عليه ومعناه الإقرار {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} مصدر مؤكد، أي يوصيكم بذلك وصية، كقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار، أي لا يضار وصية من اللَّه وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من اللَّه بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} بالاضافة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله. وهذا وعيد.فإن قلت: في: {يُوصى} ضمير الرجل إذا جعلته الموروث، فكيف تعمل إذا جعلته الوارث؟قلت: كما عملت في قوله تعالى: {فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ} لأنه علم أن التارك والموصى هو الميت.فان قلت: فأين ذو الحال فيمن قرأ {يُوصى بِها} على ما لم يسم فاعله؟قلت: يضمر يوصى فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل: {يُوصى بِها} علم أن ثم موصيا، كما قال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} على ما لم يسمّ فاعله، فعلم أن ثم مسبحا، فأضمر يسبح فكما كان رجال فاعل ما يدل عليه يسبح، كان غير مضارّ حالا عما يدل عليه يوصى بها.
|