الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
كان الله ولم يكن شيء قبله من تحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره منقولة من الجزء الحادي والثلاثين من كتاب الكواكب الدراري الموجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق المحروسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ونشهد أن فصل في صحيح البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا بني تميم اقبلوا البشرى " قالوا: قد بشرتنا فاعطنا فأقبل على أهل اليمن فقال " يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر فقال " كان الله ولم يكن شيء قبله " وفي لفظ " معه " وفي لفظ " غيره " " وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض " وفي لفظ " ثم خلق السماوات والأرض " ثم جاءني رجل فقال: أدرك ناقتك فذهبت فإذا السراب ينقطع دونها فوالله لوددت أني تركتها ولم أقم. قوله " كتب في الذكر " يعني اللوح المحفوظ كما قال ) والناس في هذا الحديث على قولين: منهم من قال: إن مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجوداً وحده ثم أنه ابتدأ إحداث جميع الحوادث وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم وإن جنس الزمان حادث لا في زمان وجنس الحركات والمتحركات حادث وإن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتدأ الفعل ولا كان الفعل ممكناً. ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: وكذلك صار متكلماً بعد أن لم يكن يتكلم بشيء بل ولا كان الكلام ممكناً له. ومنهم من يقول: الكلام أمر يوصف بأنه يقدر عليه لا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته بل هو أمر لازم لذاته بدون قدرته ومشيئته. ثم هؤلاء منهم من يقول: هو المعنى دون اللفظ المقروء عبر عنه بكل من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومنهم من يقول بل هو حروف وأصوات لازمة لذاته لم تزل ولا تزال وكل ألفاظ الكتب التي أنزلها وغير ذلك. والقول الثاني في معنى الحديث: أنه ليس مراد الرسول هذا بل أن الحديث يناقض هذا ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع فقال تعالى ) ومن هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب. قال وما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة " فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان مخلوقاً قبل خلق السماوات والأرض وهو أول ما خلق من هذا العالم وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص وهو قول جمهور السلف كما قدر ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. والدليل على هذا القول الثاني وجوه )أحدها( أن قول أهل اليمن " جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر " إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم أو جنس المخلوقات فإن كان المراد هو الأول كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أجابهم لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم وإن كان المراد الثاني لم يكن قد أجابهم لأنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً بل قال " كان الله ولا شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض " فلم يذكر إلا خلق السماوات والأرض لم يذكر خلق العرش مع أن العرش مخلوق أيضاً فإنه يقول " وهو رب العرش العظيم " وهو خالق كل شيء: العرش وغيره ورب كل شيء: العرش وغيره. وفي حديث أبي رزين قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلق العرش. وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه بل أخبر بخلق السماوات والأرض فعلم أنه أخبر بأول خلق هذا العالم لا بأول الخلق مطلقاً. وإذا كان إنما أجابهم بهذا علم أنهم إنما سألوه عن هذا لم يسألوه عن أول الخلق مطلقاً فإنه لا يجوز أن يكون أجابهم عما لم يسألوه عنه ولم يجبهم عما سألوا عنه بل هو صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك مع أن لفظه إنما يدل على هذا لا يدل على ذكره أول الخلق وإخباره بخلق السماوات والأرض بعد أن كان عرشه على الماء يقصد به الإخبار عن ترتيب بعض المخلوقات على بعض فإنهم لم يسألوه عن مجرد الترتيب وإنما سألوه عن أول هذا الأمر فعلم أنهم سألوه عن مبدأ خلق هذا العالم فأخبرهم بذلك كما نطق في أولها في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض. وبعضهم يشرحها في البدء أو في الابتداء خلق الله السماوات والأرض. والمقصود أن فيها الإخبار بابتداء خلق السماوات والأرض وأنه كان الماء غامراً للأرض وكانت الريح تهب على الماء فأخبر أنه حينئذ كان هذا ماء وهواء وتراباً وأخبر في القرآن العظيم أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وفي الآية الأخرى ) والله أعلم. الوجه الثاني أن قولهم " هذا الأمر " إشارة إلى حاضر موجود والأمر يراد به المصدر ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره وهذا مرادهم فإن الذي هو قوله ليس مشهوداً مشاراً إليه بل المشهود المشار ليه هذا المأمور به قال تعالى ) ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لم يشيروا إليه بهذا فإن ذاك لم يشهدوه فلا يشيرون إليه بهذا بل لم يعلموه أيضاً فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بذلك ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود. الوجه الثالث أنه قال " كان الله ولم يكن شيء قبله " وقد روي " معه " وروي " غيره " والألفاظ الثلاثة في البخاري والمجلس كان واحداً وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس وعمران الذي روى الحديث لم يقم منه حين انقضى المجلس بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس وهو المخبر بلفظ الرسول فدل على أنه إنما قال أحد الألفاظ والآخران رويا بالمعنى. وحينئذ فالذي ثبت عنه لفظ " القبل " فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء " وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى ) وإذا ثبت في هذا الحديث لفظ القبل فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما أبداً وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل " كان الله ولا شيء قبله " مثل الحميدي والبغوى وابن الأثير وغيرهم. وإذا كان إنما قال " كان الله ولم يكن شيء قبله " لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق. الوجه الرابع أنه قال فيه " كان الله ولم يكن شيء قبله أو معه أو غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء " فأخبر عن هذه الثلاثة بلفظ الواو لم يذكر في شيء منها ثم وإنما جاء ثم في قوله " خلق السماوات والأرض " وبعض الرواة ذكر فيه خلق السماوات والأرض بثم وبعضهم ذكرها بالواو. فأما الجمل الثلاث المتقدمة فالرواة متفقون على أنه ذكرها بلفظ الواو ومعلوم أن لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور فلا يفيد الأخبار بتقديم بعض ذلك على بعض وإن قدر أن الترتيب مقصود إما من ترتيب الذكر لكونه قدم بعض ذلك على بعض وإما من الواو عند من يقول به فإنما فيه تقديم كونه على كون العرش على الماء وتقديم كون العرش على الماء على كتابته في الذكر كل شيء وتقديم كتابه في الذكر كل شيء على تقديم خلق السماوات والأرض وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر لكن في جواب أهل اليمن إنما كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السماوات والأرض وما بينهما وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك. الوجه الخامس أنه ذكر تلك الأشياء بما يدل على كونها ووجودها ولم يتعرض لابتداء خلقها وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقها وسواء كان قوله " وخلق السماوات والأرض " أو " ثم خلق السماوات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وإن كان قد خلق من مادة كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خلق الله الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " فإن كان لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم " ثم خلق " فقد دل على أن خلق السماوات والأرض بعد ما تقدم ذكره من كونه عرشه على الماء ومن كتابته في الذكر وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من تمام البيان وحصول المقصود بلفظ الترتيب وإن كان لفظه الواو فقد دل سياق الكلام على أن مقصوده أنه خلق السماوات والأرض بعد ذلك وكما دل على ذلك سائر النصوص فإنه قد علم أنه لم يكن مقصوده الإخبار بخلق العرش ولا الماء فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السماوات والأرض وإذا لم يكن في اللفظ ما يدل على خلق ذلك إلا مقارنة خلقه لخلق السماوات والأرض وقد أخبر عن خلق السماوات مع كون ذلك علم أن مقصوده أنه خلق السماوات والأرض حين كان العرش على الماء كما أخبر بذلك في القرآن وحينئذ يجب أن يكون العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح حيث قال " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " فأخبر أن هذا التقدير السابق لخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة حين كان عرشه على الماء. الوجه السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قد قال " كان ولم يكن قبله شيء " وإما أن يكون قد قال " ولا شيء معه " " أو غيره " فإن كان إنما قال اللفظ الأول لم يكن فيه تعرض لوجوده تعالى قبل جميع الحوادث. وإن كان قد قال الثاني أو الثالث فقوله " ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر " إما أن يكون مراده أنه حين كان لا شيء معه كان عرشه على الماء أو كان بعد ذلك كان عرشه على الماء فإن أراد الأول كان معناه لم يكن معه شيء من هذا الأمر المسؤول عنه وهو هذا العالم. ويكون المراد أنه كان الله قبل هذا العالم المشهود وكان عرشه على الماء. وأما القسم الثالث وهو أن يكون المراد به كان لا شيء معه وبعد ذلك كان عرشه على الماء وكتب في الذكر ثم خلق السماوات والأرض فليس في هذا إخبار بأول ما خلقه الله مطلقاً بل ولا فيه إخباره بخلق العرش والماء بل إنما فيه إخباره بخلق السماوات والأرض ولا صرح فيه بأن كون عرشه على الماء كان بعد ذلك بل ذكره بحرف الواو والواو للجمع المطلق والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وإذا لم يكن لم يبين الحديث أول المخلوقات ولا ذكر ما كان خلق العرش الذي أخبر أنه كان على الماء مقروناً بقوله " كان الله ولا شيء معه " دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء وبابتداء المخلوقات بعد ذلك إذ لم يكن لفظه دالاً على ذلك وإنما قصد الإخبار بابتداء خلق السماوات والأرض. الوجه السابع أن يقال لا يجوز أن يجزم بالمعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بدليل يدل على مراده فلو قدر أن لفظه يحتمل هذا المعنى وهذا المعنى لم يجز الجزم بأحدهما إلا بدليل فيكون إذا كان الراجح هو أحدهما لمن جزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إن أراد ذلك المعنى الآخر فهو مخطئ. الوجه الثامن أن يقال هذا المطلوب لو كان حقاً لكان أجل من أن يحتج عليه بلفظ محتمل في خبر لم يروه إلا واحد ولكان ذكر هذا في القرآن والسنة من أهم الأمور لحاجة الناس إلى معرفة ذلك لما وقع فيه من الاشتباه والنزاع واختلاف الناس فلما لم يكن في السنة ما يدل على هذا المطلوب لم يجز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث بسياقه وإنما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان ولا شيء معه " فظنوه لفظاً ثابتاً مع مجرده عن سائر الكلام الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم وظنوا معناه الإخبار بتقدمه تعالى على كل شيء وبنوا على هذين الظنين نسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس عندهم بواحدة من المقدمتين علم بل ولا ظن يستند إلى إمارة وهب أنهم لم يجزموا بأن مراده المعنى الآخر فليس عندهم بأنه قاله. وقد قال تعالى ) وهذا كله لا يجوز. الوجه العاشر أنه قد زاد فيه بعض الناس " وهو الآن على ما عليه كان " وهذه الزيادة إنما زادها بعض الناس من عنده وليست في شيء من الروايات. ثم إن منهم من يتأولها على أنه ليس معه الآن موجود بل وجوده عين وجود المخلوقات كما يقوله أهل وحدة الوجود الذين يقولون عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق كما يقوله ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وابن الفارض ونحوهم. وهذا القول مما يعلم بالاضطرار شرعاً وعقلاً أنه باطل. الوجه الحادي عاشر إن كثيراً من الناس يجعلون هذا عمدتهم من جهة السمع: أن الحوادث لها ابتداء وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم إذا لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطق به مع أنهم يحكون هذا عن المسلمين واليهود والنصارى كما يوجد مثل هذا في كتب أكثر أهل الكلام المبتدع في الإسلام الذي ذمه السلف وخالفوا به الشرع والعقل. وبعضهم يحكيه إجماعاً للمسلمين وليس معهم بذلك نقل لا عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن الكتاب والسنة فضلاً عن أن يكون هو قول جميع المسلمين. وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال بقدم العالم ووافق الفلاسفة الدهرية لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها لا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته سواء قيل هو موجود بنفسه أو معلول لغيره. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة والكرامية الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلاً. وطائفة أخرى كالكلابية ومن وافقهم يقولون: بل الكلام قديم العين إما معنى واحد وأما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان ويقول هؤلاء أن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته إما قائماً بذاته أو منفصلاً عنه عند من يجوز ذلك وإما منفصلاً عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته. ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء وأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان وكان مؤمناً بأن الرسل لا يقولون إلا حقاً بظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم. ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك لا نصاً ولا ظاهراً بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان. وقد جعلوا ذلك معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم. فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول قاله ولا في العقل ما يدل عليه. بل العقل والسمع يدل على خلافه. ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه. الوجه الثاني عشر أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم وعمدتهم التي هي أعظم الحجج مبناها على امتناع حوادث لا أول لها وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به بل كلامه مخلوق منفصل عنه وكذلك رضاه وغضبه والتزموا على ذلك أن الله لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته الله ورسوله وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها. وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده. ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل قالوا أن الرسول لم يبين الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث عشر إن الغلط في معنى هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة بل المعقول الصريح فإنه أوقع كثيراً من النظار وأتباعهم في الحيرة والضلال فإنهم لم يعرفوا إلا قولين قول الدهرية القائلين بالقدم. وقول الجهمية القائلين بأنه لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه فبقوا حائرين مرتابين جاهلين وهذه حال من لا يحصى منهم ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره. ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول الفاعل على فعله وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل على فعله وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل عليه بل هو معه أزلاً وأبداً أمر يناقض صريح العقل. وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن. ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أنه خلق السماوات والأرض بما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم يكونا وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله. وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون أن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء بل قولهم وإن كان أشد فساداً من قول متأخريهم فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء. وإن كانوا خالفوه من جهات أخرى ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم فوجدوا أن الفاعل صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلاً ورأوا صريح العقل يقضي بأنه إذا صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً فلا بد من حدوث شيء وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكناً بعد أن كان ممتنعاً بلا حدوث وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث وأن حدوث جنس الوقت ممتنع فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن فيكون الفعل معه فيكون الفعل مقارناً غير مقارن بأن كان بعد أن لم يكن حادثاً مسبوقاً بالعدم فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم ووجدوا عقولهم تقصر بما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي والجمع بين النقيض ممتنع فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك. ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً وبين آحاد الفعل والكلام فيقول كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل فإذا كان الفاعل حياً وقيل أن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة - كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته وحياته لازمة له فلم يزل متكلماً فعالاً مع العلم بأن الحي يتكلم يفعل بمشيئته وقدرته وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق ولا نقول أنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق والذي ليس له قدرة هو عاجز ولكن نقول لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً لا شبه له ولا كيف. وقال في موضع آخر: فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم. وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً فتعالى الله عن هذه الصفة بل أنه لم يزل متكلماً إذا شاء. ولا نقول أنه كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم ولا نقول أنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ثم ساق كلامه رضي الله عنه. فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه. لا بل هو خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق له وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وإن قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً. وإذا قيل أن الخلق صفة كمال لقوله تعالى ) وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب. وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول. فهؤلاء الفلاسفة الدهرية وإن ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعلية فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى. ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أوله ) وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له فإن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله وعندهم أنه لا يعلم شيئاً من جزئيات العلم والتعليم فرع العلم فمن لم يعلم الجزئيات يمتنع أن يعلمها غيره وكل موجود فهو جزئي لا كلي كذا الكليات إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان فإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات فامتنع أن يعلم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة. ومن قال منهم لا يعلم لا كلياً ولا جزئياً فقوله أقبح. ومن قال يعلم الكليات الثابتة دون المتغيرة فهو عندهم لا يعلم شيئاً من الحوادث ولا يعلمها لأحد من خلقه كما يقتضي قولهم أنه لم يخلقها فعلى قولهم لا خلق ولا علم وهذا حقيقة قول مقدمهم أرسطو فإنه لم يثبت أن الرب مبدع للعالم ولا جعله علة فاعلة بل الذي أثبته أنه علة غائية يتحرك الفلك لتشبثه به كتحريك المعشوق للعاشق وصرح بأنه لا يعلم الأشياء. فعنده لا خلق ولا علم. وأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ) الوجه الرابع عشر إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته وهي المخلوقات المشهودة الموجودة من السماوات والأرض وما بينهما فأخبر الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش. وشرع أهل الإيمان أن يجتمعوا كل أسبوع يوماً يعبدون الله فيه ويحتفلون بذلك ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق فيه السماوات والأرض. ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع فإن النفس يتبع النصوص فالاسم يعبر عما تصوره فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفاً بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك وأما الأسبوع فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم وحينئذ فأخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه وأنه خلقه في ستة أيام وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما. وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم " رواه البخاري. فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما. وقوله " بدأ الخلق " مثل قوله في الحديث الآخر " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " فإن الخلائق هنا المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء. ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم كما في حديث القلم: إن الله لما خلقه قال اكتب قال: وماذا أكتب قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وكذلك في الحديث الصحيح " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وقوله في الحديث الآخر الصحيح " كان الله ولا شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض " يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له كما في قوله ) ( وأمثال ذلك. قال ابن عباس " كان ولا يزال " ولم يقيد كون بوقت دون وقت ويمتنع أن يحدث له غيره صفة بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه فهو المستحق لغاية الكمال وذاته هي المستوجبة لذلك. فلا يتوقف شيء من كمال ولوازم كماله على غيره بل نفسه المقدسة وهو المحمود على ذلك أزلاً وأبداً وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه. وأما غيره فلا يحصي ثناء عليه بل هو نفسه كما أثنى على نفسه كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". وإذا قيل لم يكن متكلماً ثم تكلم أو قيل كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً له كان هذا - مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال ومع تشبيهه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال - ممتنعاً من جهة أن الممتنع لا يصير ممكناً بلا سبب والعدم المحض لا شيء فيه فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكناً بلا سبب حادث. وكذلك إذا قيل كلامه كله معنى واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة كان هذا في الحقيقة تعطيلاً للكلام وجمعاً بين المتناقضين إذ هو إثبات لموجود لا حقيقة له بل يمتنع أن يكون موجوداً مع أنه لا مدح فيه ولا كمال وكذلك إذا قيل كلامه كله قديم العين وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس فيه قدرة ولا مشيئة كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده في المعقول لا كمال فيه إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه. أما قول من يقول ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره فهذا تعطيل للكلام من كل وجه وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية وهو سلب للصفات إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهى ويخبر ويبشر وينذر وينادي من غير أن يقوم به شيء من ذلك كما قالوا أنه يريد ويحب ويبغض ويغضب من غير أن يقوم به شيء من ذلك وفي هذا من مخافة صريح المعقول وصحيح المنقول ما هو مذكور في غير هذا الموضع. وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس من المعقولات والمتخيلات وهذا )معنى( تكليمه لموسى عليه السلام وعندهم فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم. ثم إذا قالوا مع ذلك أنه لا يعلم الجزئيات فلا علم ولا أعلام وهذا غاية التعطيل والنقص وهم ليس لهم دليل قط على قدم شيء من العالم بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل وأنه لم يزل الفاعل فاعلاً أو لم يزل لفعله مدة أو أنه لم يزل للمادة مادة وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك ولا قدم شيء من حركاته ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك. والرسل أخبرت بخلق الأفلاك وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك وفي زمان قبل هذا الزمان فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وسواء قيل أن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها أو قيل أنها أكبر منها كما قال بعضهم: أن كل يوم قدره ألف سنة فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض غير هذه الأيام وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك. وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السماوات والأرض. وقد أخبر سبحانه أنه ) وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء وهو الماء الذي كان العرش عليه المذكور في قوله ) وقوله ) والاستفهام استفهام إنكار مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء فإذا أقروا بأن خالقاً خلقهم نفعهم الوجه الخامس عشر أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به وما سوى ذلك نقص يجب نفيه عنه فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادرة على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته والتي هي من أظهر صفات الكمال فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلا بد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد أن لم يكن قبل هذا بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر ثم جعله غيره عالماً قادراً وكذلك إذا قالوا كان غير متكلم ثم صار متكلماً. وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلماً. قال: كالإنسان قال: فقد جمعتم بين تشبيه وكفر. وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع. وإذا قال القائل: كان في الأزل قادراً على أن يخلق فيما لا يزال كان هذا كلاماً متناقضاً لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل ومن لم يمكنه الفعل في الأزل امتنع أن يكون قادراً في الأزل فإن الجمع بين كونه قادراً وبين كون المقدور ممتنعاً جمع بين الضدين فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادراً. وأيضاً فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهو قادر. وإذا قدر قبل ذلك شيئاً شاءه الله فالأمر كذلك فلم يزل قادراً والفعل ممكن وليس لقدرته وتمكينه من الفعل أول فلم يزل قادراً يمكنه أن يفعل فلم يكن الفعل ممتنعاً عليه قط. وأيضاً فإنهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل والأزل ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة - فني الخردل كله والأزل لم ينته ولو قدر أضعاف ذلك أضعافاً لا ينتهي. فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك. وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً. وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى وأيضاً فالأزل معناه عدم الأولية ليس الأزل شيئاً محدوداً فقولنا لم يزل قادراً بمنزلة قولنا هو قادر دائماً وكونه قادراً وصف دائم لا ابتداء له فكذلك إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل يفعل ما شاء يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته وإذا ظن الظان أن هذا يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته وإذا ظن الظان أن هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق مسبوق بالعدم فليس معه شيء قديم بقدمه. وإذا قيل لم يزل يخلق كان معناه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد مخلوق كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقاً بعد مخلوق ننفي ما ننفيه من الحوادث والحركات شيئاً بعد شيء. وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل لا بأن معه مفعولاً من المفعولات بعينه. وإن قدر أنه نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل بل هي من كماله قال تعالى ) وهذا فرق في أعيان المخلوقات وهو فرق صحيح لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام فلم يفرقوا بين كون كلامه قديماً بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبين كون الكلام المعين قديماً وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين المعين قديماً كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم وكذلك كل ما سواه. وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح. وإن من غلط أهل الفلسفة والكلام أو غيرهم فإنما هو لغلط فيهما أو في أحدهما وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضاً لا يكذب بعضه بعضاً قال تعالى ) وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع أحدهما بالآخر وحال من كذب على الله ونسب إليه بالسمع أو العقل ما لا يصح نسبته إليه أو كذب بالحق لما جاءه فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل وقال تعالى عن أهل النار ) ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك فطائفة كأرسطو وأتباعه قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في الزمان وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة ثم ظنوا أن الحركة المعينة وهي حركة الفلك هي القديمة الأزلية وزمانها قديم فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين. وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلاً ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب وكان الشيء بعد ما لم يكن في غير زمان وأمثال ذلك مما يخلف صريح العقل وهم يظنون مع ذلك أن هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وليس هذا القول منقولاً عن موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله عليهم وسلامه ولا عن أحد من أصحابهم إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم فظنوا أن هذا قول الرسل صلى الله عليهم وسلم وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية وإما بعدم بيان الحق وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء. وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان. فإن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً. انتهى
|