الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وكل من هؤلاء أدرك من درجات الكلام وأنواعه بعض الحق. وكذلك الأصل الثاني ـ وهو تكلمنا بكلام الله ـ فإن الكتاب والسنة والإجماع دل على أن هذا الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله لا كلام غيره، ولو قال أحد: إن حرفًا منه، أو معنى ليس هو من كلام الله، أو أنه كلام غير الله وسمع ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من أصحابه لعلم بالاضطرار أنهم كانوا يقابلونه بما يقابلون أهل الجحود والضلال، بل قد أجمع الخلائق على نحو ذلك في كل كلام، فجميع الخلق الذين يعلمون أن قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل** /من شعر لَبِيد، يعلمون أن هذا كلام لبيد وأن قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل** هو من كلام امرئ القيس، مع علمهم أنهم إنما سمعوها من غيره بصوت ذلك الغير، فجاء المؤمنون ببعض الحق دون بعض فقالوا: ليس هذا، أو لا نسمع إلا صوت العبد ولفظه، ثم قال النفاة: ولفظ العبد محدث، وليس هو كلام الله، فهذا المسموع محدث، وليس هو كلام الله. وقالت المثبتة: بل هذا كلام الله وليس إلا لفظه أو صوته، فيكون لفظه أو صوته كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، أو قديم، فيكون لفظه أو صوته غير مخلوق أو قديم. وكل من الفريقين قد علم الناس بالضرورة من دين الأمة، بل وبالعقل أنه مخطئ في بعض ما قاله، مبتدع فيه؛ ولهذا أنكر الأئمة ذلك، وإذا رجع أحدهم إلى فطرته وجد الفرق بين أن يشير إلى الكلام المسموع فيقال: هذا كلام زيد، وبين أن يقول: هذا صوت زيد، ويجد فطرته تصدق بالأول وتكذب بالثاني، قال الله تعالى: وكل أحد يعلم بفطرته ما دل عليه الكتاب والسنة، من أن الكلام / كلام الباري، والصوت صوت القارئ؛ ولهذا قال الإمام أحمد لأبي طالب لما قرأ عليه: فبين أحمد الفرق بين أن يقول: هذا الكلام غير مخلوق، أو يقول: لفظ هذا المتكلم غير مخلوق؛ لأن قوله: لفظي، مجمل، يدخل فيه فعله، ويدخل فيه صوته. فإذا قيل: لفظي، أو تلاوتي، أو قراءتي غير مخلوقة، أو هي المتلو أشعر ذلك أن فعل العبد وصوته قديم، وأن ما قام به من المعنى والصوت هو عين ما قام بالله من المعنى والصوت، وإذا قال: لفظي بالقرآن، أو تلاوتي للقرآن، أو لفظ القرآن، أو تلاوته مخلوقة، أو التلاوة غير المتلو، أو القراءة غير المقروء أفهم ذلك أن حروف القرآن ليست من كلام الله بحال، وأن نصف القرآن كلام الله ونصفه كلام غيره، وأفهم ذلك أن قراءة الله للقرآن مباينة لمقروئه، وتلاوته للقرآن مباينة لمتلوه، وأن قراءة العبد للقرآن مباينة لمقروء العبد، وتلاوته له مباينة لمتلوه، وأفهم ذلك أن ما نزل إلينا ليس هو كلام الله؛ لأن المقروء والمتلو هو كلام الله، و المغايرة عند هؤلاء تقتضى المباينة، فما باين كلامه لم يكن كلامًا له،فلا يكون هذا الذي أنزله كلامه. /ولما كان الكلام إنما يكون بحركة وفعل تنشأ عنه حروف ومعان، صار الكلام يدخل في اسم الفعل والعمل، تارة باعتبار الحركة والفعل، ويخرج عنه تارة باعتبار الحروف والمعاني؛ ولهذا يجيء في الكتاب والسنة قسمًا منه تارة، كما في قوله تعالى: ولهذا تنازع العلماء فيما إذا حلف لا يعمل عملاً في هذا المكان، ولم يكن له نية ولا سبب يفيد، هل يحنث بالكلام؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره، وذكروهما روايتين عن أحمد؛ ولهذا قال أبو محمد بن قتيبة في كتابه الذي ألفه في بيان [اللفظ]: أن القراءة قرآن وعمل لا يتميز أحدهما عن الآخر، فمن قال: إنها قرآن فهو صادق، ومن حلف أنها عمل فهو بار، وخطأ من أطلق أن القراءة مخلوقة، وخطأ من زعم أنها غير مخلوقة، ونسبهما جميعًا إلى قلة العلم، وقصور الفهم؛ فإن هذه المسألة خفيت على الطائفتين لغموضها؛ فإن إحدى الطائفتين وجدت القراءة تسمى قرآنا فنفت الخلق عنها، والأخرى وجدت القراءة فعلا يثاب صاحبه عليه فأثبتت حدثه. /قلت: والخطأ في هذا الأصل في طرفين،كما أنه في الأصل الأول في طرفين. ففي الأصل الأول من قال: إنه ليس له كلام قائم به ومن قال: ليس كلامه إلا معنى مجرد أو صوت مجرد. وفي هذا الأصل من قال: كلامه لا يقوله غيره. أو لا يسمع من غيره، ومن قال: كلامه إذا أبلغه غيره وأداه فحاله كحاله إذا سمعه منه وتلاه، بل كلامه يقوله رسله وعباده، ويتكلمون به، ويتلونه، ويقرؤونه، فهو كلامه حيث تصرف، وحيث تلى، وحيث كتب، وكلامه ليس بمخلوق حيث تصرف، وهو مع هذا فليس حاله إذا قرأه العباد وكتبوه كحاله إذا قرأه الله وسمعوه منه، ولا من يسمعه من القارئ بمنزلة موسى بن عمران الذي سمع كلام رب العالمين منه، كما جاء في الحديث:[إذا سمع الخلائق القرآن يوم القيامة من الله فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك]، بل ولا تلاوة الرسول وسمعه منه كتلاوة غيره وسمعه منه، بل ولا تلاوة بعض الناس والسماع منه كتلاوة بعض الناس والسماع منه، وهو كلام الله ـ تعالى ـ الذي ليس بمخلوق في جميع أحواله، وإن اختلفت أحواله. ومما يجب أن يعرف أن قول الله ورسوله والمؤمنين لما أنزله الله، هذا كلام الله، بل وقول الناس لما يسمعونه من كلام الناس، هذا كلام فلان،كقولهم لمثل قوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل / امرئ ما نوى) هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، و لمثل قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل** هذا شعر لَبِيد. فليس قولهم: هذا هو هذا؛ لأنه مساو له في النوع، كما يقال: هذا السواد هو هذا السواد؛ فإن هذا يقولونه لما اتفق من الكلامين، والعلمين؛ والقدرتين، والشخصين. ويقولون في مثل ذلك: وَقْع الخاطر على الخاطر، كوقع الحافر على الحافر. وفي الحقيقة فهو إنما هو مثله، كما قال تعالى: ولهذا قال الفقهاء: إن من قال ما يوافق لفظ القرآن على وجه / الذكر والدعاء، مثل أن يقول عند ابتداء الفعل: بسم الله، وعند الأكل: الحمد لله، ونحو ذلك لم يكن قارئًا، وجاز له ذلك مع الجنابة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن:سبحان الله،والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه مسلم. فجعلها أفضل الكلام بعد القرآن، وأخبر أنها من القرآن فهي من القرآن. وإذا قالها على وجه الذكر لم يكن قارئًا. لكن هذا الوجه قد يضاف فيه الكلام إلى الأول، وإن لم يقصد الثاني تبليغ كلامه؛ لأنه هو الذي أنشأ الحقيقة ابتداء، والثاني قالها احتذاء، فإذا تمثل الرجل بقول الشاعر وإن لم يقصد تبليغ شعره: ألا كل شيء ما خلا الله باطل** قيل له: هذا كلام لبيد، لكن الثاني قد لا يقصد إلا أن يتكلم به ابتداء؛ لاعتقاده صحة معناه. ومن هنا تنازع أهل العلم في [حروف الهجاء] وفي [الأسماء] المنزلة في القرآن وفي [كلمات] في القرآن، إذا تمثل الرجل بها ولم يقصد بها القراءة، هل يقال: ليست مخلوقة لأنها من القرآن ؟ أو يقال: إذا لم يقصد بها القرآن وكلام الله فليست من كلام الله، فتكون / مخلوقة، على قولين لأهل السنة. وأما الإنسان إذا قال ما هو كلام لغيره يقصد تبليغه وتأديته، أو التكلم به معتقدًا أنه إنما قصد التكلم بكلام غيره، الذي هو الآمر بأمره، المخبر بخبره، المتكلم ابتداء بحروفه ومعانيه ـ فهنا الكلام كلام الأول قطعًا، ليس كلامًا للثاني بوجه من الوجوه، وإنما وصل إلى الناس بواسطة الثاني. وليس للكلام نظير من كل وجه فيشتبه به، وإنما هو أمر معقول بنفسه؛ فإن كلام زيد المخلوق وإن كان قد عدم مثلا، وعدم أيضا ما قام به من الصفة، فإذا رواه عنه راوٍ آخر، وقلنا [: هذا كلام زيد، فإنما نشير إلى الحقيقة التي ابتدأ بها زيد واتصف بها، وهذه هي تلك بعينها؛ أعني الحقيقة الصورية؛ لا المادة؛ فإن الصوت المطلق بالنسبة إلى الحروف الصوتية المقطعة بمنزلة المادة والصورة، وهو لم يكن كلامًا للمتكلم الأول؛ لأجل الصوت المطلق الذي يشترك فيه صوت الآدميين والبهائم العجم والجمادات، وإنما هو لأجل الصورة التي ألفها زيد مع تأليفه لمعانيها. ووجود هذه الصورة في المادتين ليس بمنزلة وجود الأنواع والأشخاص في الأعيان، ولا بمنزلة وجود الأعراض في الجواهر، ولا / هو بمنزلة سائر الصور في موادها الجوهرية، بل هو حقيقة قائمة بنفسها، وليس لكل حقيقة نظير مطابق من كل وجه. وإذا قالوا: هذا شعر لبيد، فإنما يشيرون إلى اللفظ والمعنى جميعًا. ثم مع هذا لو قال القائل: أنا أنشأت لفظ هذا الشعر، أو هذا اللفظ من إنشائي، أو لفظي بهذا الشعر من إنشائي، لكذبه الناس كلهم، وقالوا له: بل أنت رويته، وأنشدته. أما أن تكون أحدثت لفظه، أو هو محدث البارحة بلفظك، أو لفظك به محدث البارحة فكذب؛ لأن لفظ هذا الشعر موجود من دهر طويل، وإن كنت أنت أديته بحركتك وصوتك، فالحركة والصوت أمر طبيعي يشركك فيه الحيوان، ناطقه وأعجمه، فليس لك فيه حظ من حيث هو كلام، ولا من حيث هو كلام ذلك الشاعر؛ إذ كونه كلامًا، أو كلامًا لمتكلم هو مما يختص به المتكلم، إنما أديته بآلة يشركك فيها العجماوات، والجمادات، لكن الحمد لله الذي جعل لك من العقل والتمييز ما تهتدي به ويسير به لسانك ولم يجعل ذلك للعجماوات، فجعل فعلك وصفتك تعينك على عقل الكلام والتكلم به، ولم يجعل فعل العجم وصفتها كذلك. فإذا كان هذا في مخلوق بَلَّغ كلام مخلوق مثله، فكيف الظن بكلام الخالق- جل جلاله ـ الذي فَضْلُه على سائر الكلام كفضل الله على خلقه؟! /فإن له شأنا آخر يختص به لا يشبه بتبليغ سائر الكلام، كما أنه في نفسه لا يشبه سائر الكلام، وليس له مثل يقدر عليه أحد من الخلق؛ بخلاف سائر ما يبلغ من كلام البشر؛ فإن مثله مقدور، فلا يجوز إضافة هذا الكلام المسموع الذي هو القرآن إلى غير الله بوجه من الوجوه؛ إلا على سبيل التبليغ، كقوله تعالى: وقد بسطت الكلام في هذه المواضع، التي هي محارات العقول، التي اضطربت فيها الخلائق في الموضع الذي يليق به؛ فإن هذا جواب فتيا لا يليق به إلا التنبيه على جمل الأمور، وإثبات وجوب نسبة الكلام إلى من بدأ منه لفظه ومعناه دون من بلغه عنه وأداه، وأنه كلام المتصف به مبتدئًا حقيقة، سواء سمع منه أو سمع ممن بلغه وأداه بفعله وصوته، مع العلم بأن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة، وأن قول الله ورسوله والمؤمنين: هذا كلام الله، وما بين اللوحين كلام الله حقيقة لا ريب فيه، وأن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه ويحفظونه هو كلام الله ـ تعالى ـ وكلام الله حيث تصرف غير مخلوق. وأما ما اقترن بتبليغه وقراءته من أفعال العباد، وصفاتهم فإنه مخلوق. لكن هذا الموضع فيه اشتباه وإشكال لا تحتمل تحريره وبسطه هذه الفتوى؛ لأن صاحبها مستوفز عجلان يريد أخذها؛ ولأن في / ذلك من الدقة والغموض ما يحتاج إلى ذكر النصوص، وبيان معانيها، وضرب الأمثال التي توضح حقيقة الأمر، وليس هذا موضعه. بل الذي يعلم من حيث الجملة، أن الإمام أحمد والأئمة الكبار الذين لهم في الأمة لسان صدق عام، لم يتنازعوا في شيء من هذا الباب، بل كان بعضهم أعظم علمًا به وقيامًا بواجبه من بعض. وقد غلط في بعض ذلك من أكابر الناس جماعات. وقد رد الإمام أحمد عامة البدع في هذا الباب هو والأئمة. فأول ما ابتدع الجهمية القول بخلق القرآن و نفي الصفات، فأنكرها من كان في ذلك الوقت من التابعين ثم تابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة وكَفَّروا قائلها. ثم ابتدع بعض أهل الحديث والكلام ـ الذين ناظروا الجهمية ـ القول بأن القرآن المنزل مخلوق، أو أنه ليس بكلام الله، أو أنه ليس في المصاحف ولا في الصدور، وأنكر بعضهم أن تكون حروف القرآن كلام الله، أو أن يكون الله تكلم بالصوت، وأنكر الإمام أحمد وأئمة وقته ذلك. وقابلهم قوم من أهل الكلام والحديث، فزعموا أن ألفاظ العباد وأصوات العباد غير مخلوقة، أو ادعوا أن بعض أفعال العباد أو صفاتهم غير مخلوقة، أو أن ما يسمع من الناس من القرآن هو مثل ما يسمع / من الله-تعالى - من كل وجه، ونحو ذلك. فأنكر الإمام أحمد وعامة أئمة وقته وأصحابه وغيرهم من العلماء ذلك. وإنكار جميع هذه البدع وردها موجود عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة في الكتب الثابتة، مثل كتاب [السنة] للخلال، و[الإبانة] لابن بطة، و كتب [المحنة] التي رواها حنبل وصالح، وكتاب [السنة] لعبد الله بن أحمد، و[السنة] للالكائي، و [السنة] لابن أبي حاتم وما شاء الله من الكتب. فأما الرد على الجهمية القائلين بنفي الصفات وخلق القرآن، ففي كلام التابعين وتابعيهم والأئمة المشاهير من ذلك شيء كثير، وفي [مسألة القرآن] من ذلك آثار كثيرة جدًا. مثل ما روى ابن أبي حاتم وابن شاهين واللالكائي وغيرهم من غير وجه عن علي ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قيل له يوم صفين: حكمت رجلين، فقال: ما حكمت مخلوقًا، ما حكمت إلا القرآن . وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال له: مه! القرآن منه. وفي رواية: القرآن كلام الله، وليس بمربوب، منه خرج، وإليه يعود. وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية كفارة، فمن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. /ومن المستفيض عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ـ وربما وقفه بعضهم على سفيان والأول هو المشهور ـ قال: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، ومشايخ عمرو من لقى عمرو من الصحابة والتابعين. وعن علي بن الحسين زين العابدين، وابنه جعفر بن محمد: ليس القرآن بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله. ومثل هذا مأثور عن الحسن البصري، وأيوب السختياني، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفـة، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، والأوزاعي، والشافعي، وأبي بكر بن عياش، وهُشَيْم، وعلي بن عاصم، وعبد الله بن المبارك، وأبي إسحاق الفزاري، ووَكِيع بن الجراح، والوليد بن مسلم، وعبـد الرحـمن بن مهدي، ويحيى بن سعـيد القَطَّان [هو أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي الأحول الحافظ، وثقه ابن حبان والعجلي وأبو زُرعة والنسائي. قال عنه ابن سعد: [كان ثقة مأمونا رفيعًا حجة]. ولد سنة 120هـ ومات سنة 198هـ .] ، ومعاذ بن معاذ، وأبي يوسف، ومحمد، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وبشر بن الحـارث [هو أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطـاء بن هلال المروزي الزاهد المعروف بالحافي، قال عنه أبو حاتم: [ثقة رضي]، ووثقه الدارقطني ومسلمة، مات ببغداد سنة 227هـ وهو ابن ست وسبعين سنة]، ومـعروف الكرخي، وأبي عبيد القاسم ابن سلام، وأبـي ثـور، والبخـاري، ومسلم، وأبي زرعَة، وأبي حاتم، ومن لا يحصى كـثرة. قال أبو القاسم اللالكائي ـ وقد سمى علماء القرون الفاضلة ومن يليهم، الذين نقل عنهم في كتابه [أن القرآن كلام الله غير مخلوق] ـ: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسًا من التابعين، وأتباع التابعين، والأئمة / المرضيين ـ سوى الصحابة ـ على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتمذهبوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول المحـدثين لبلغـت أسماؤهم ألوفـا كثيرة، فنقلت عن هؤلاء عصرًا بعد عصر لا ينكر عليهم المنكر، ومـن أنكـر قولهم استتابـوه، أو أمروا بقتله، أو نفيه، أو صلبه. قال: ولا خـلاف بين الأمــة أن أول مـن قال: القرآن مخلوق، الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان، وكلاهما قتله المسلمون، وممن أفتى بقتل هؤلاء: مالك بن أنس، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسفيان بن عيينة، وأبو جعفر المنصور الخليفة، ومعتمر بن سليمان [هو أبو محمد معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، البصري، قيل: إنه كان يلقب بالطفيل، وثقه ابن معين وأبو حاتم وابن سعد والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات، ولد سنة 601هـ ومات سنة 781هـ]، ويحيـى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومعاذ بـن مـعاذ، ووَكِيع بـن الجـراح، وأبـوه، وعبد الله بن داود الخُرَيبي، وبشر بن الوليد ـ صاحب أبي يوسف ـ وأبو مصعب الزهري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وغير هؤلاء من الأئمة. وكذلك ذم [الواقفة] وتضليلهم - الذين لا يقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق ـ مأثور عن جمهور هؤلاء الأئمة مثل ابن الماجشون وأبي مصعب، ووكيع بن الجراح، وأبي الوليد، وأبى الوليد الجارودي ـ صاحب الشافعي ـ والإمام أحمد بن حنبل، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، / ومن لا يحصي عدده إلا الله. وأما البدعة الثانية، المتعلقة بالقرآن المنزل تلاوة العباد له، وهي [مسألة اللفظية] فقد أنكر بدعة اللفظية ـ اللذين يقولون: إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق ـ أئمة زمانهم. جعلوهم من الجهمية، وبينوا أن قولهم يقتضي القول بخلق القرآن، وفي كثير من كلامهم تكفيرهم. وكذلك من يقول: إن هذا القرآن ليس هو كلام الله، وإنما هو حكاية عنه، أو عبارة عنه، أو أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أن الله ورسوله في المصاحف والصدور، ونحو ذلك، وهذا محفوظ عن الإمام أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي مصعب الزهري وأبي ثور، وأبي الوليد الجارودي، ومحمد بن بشار، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله من أئمة الإسلام وهداته. وكذلك أنكر بدعة [اللفظية المثبتة] ـ الذين يقولون: إن لفظ العـباد، أو صوت العـباد به غيـر مخلوق، أو يقولون: إن التلاوة التي هي فعل العبد وصوتـه غير مخلوقـة ـ الأئمة الذين بلغتهم هذه / البدعة: مثل الإمام أحمد بن حنبل، وأبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح، وأبي بكر المروزي، أخـص أصحـاب الإمـام أحـمد بن حنـبل به، وأخذ في ذلك أجوبة علماء الإسلام إذ ذاك ببغداد، والبصرة، والكوفة، والحرمين، والشام، وخراسان، وغيرهم؛ مثل عبد الوهاب الوراق، وأبي بكر الأثرم، ومحمد بن بشار بُنْدار، وأبي الحسين علي بن مسلم الطوسي، ويعقوب الدورقي، ومحمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن عبد الله المخرمي الحافظ،ومحمد بن إسحاق الصاغاني، والعباس بن محمد الدوري،وعلي بن داود القنطري، ومثنى بن جامع الأنباري، وإسحاق بن إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد، ومحمد بن يحيى الأزدي، والحسن بن عبد العزيز الجروي، وعبد الكريم بن الهيثم العاقولي، وأبي موسى بن أبي علقمة النفروني، وغيره من علماء المدينة ومحمد بن عبد الرحمن المقري، وأبي الوليد بن أبي الجارود، وأحمد بن محمد بن القاسم ابن أبي مُرة، وغيرهم من أهل مكة، وأحمد بن سنان الواسطي، وعلي بن حرب الموصلي، ومن شاء الله ـ تعالى ـ من أئمة أهل السنة وأهل الحديث من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، ينكرون على من يجعل لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة بالقرآن غير مخلوقة، ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره، وقد جمع بعض كلامهم في ذلك أبو بكر الخلال في [كتاب السنة]. /ومن المشهور في [كتاب صريح السنة] لمحمد بن جرير الطبري وهو متواتر عنه، لما ذكر الكلام في أبواب السنة، قال: وأما القول في [ألفاظ العباد بالقرآن] فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا، إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى؛ أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية، يقول الله: وقال أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل، في [كتاب المحنة]: تناهي إلى أن أبا طالب حكى عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فأخبرت أبي بذلك، فقال: من أخبرك؟ فقلت: فلان، فقال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه، فجاء، وجاء فُورَان، فقال له أبي: أنا قُلتُ لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وغضب، / وجعل يرتعد، فقال له: قرأتُ عليك: وقال الخلال في:[السنة]: حدثنا المروزي، قال لي أبو عبد الله: قد غيض قلبي على ابن شداد، قلت: أي شيء حكى عنك؟ قال: حكى عني في اللفظ، فبلغ ابن شداد أن أبا عبد الله قد أنكر عليه، فجاءنا حمدون بن شداد بالرقعة فيها مسائل، فأدخلتها على أبي عبد الله، فنظر فرأى فيها: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق ـ مع مسائل فيها ـ فقال أبو عبد الله: فيها كلام ما تكلمت به، فقام من الدهليز فدخل / فأخرج المحبرة والقلم، وضرب أبو عبد الله على موضع: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وكتب أبو عبد الله بخطه بين السطرين: القرآن حيث تصرف غير مخلوق. وقال: ما سمعت أحدًا تكلم في هذا بشيء وأنكر على من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق. وقال الخلال في كتاب [السنة]: أخبرني زكريا بن الفرج الوراق، قال حدثنا أبو محمد فوران، قال جاءنى صالح ـ وأبو بكر المروزي عندي ـ فدعاني إلى أبي عبد الله، وقال: إنه قد بلغ أبي أن أبا طالب قد حكى عنه أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقمت إليه، فتبعني صالح، فدار صالح من بابه، فدخلنا على أبي عبد الله، فإذا أبو عبد الله غضبان شديد الغضب، بين الغضب في وجهه!! فقال لأبي بكر: اذهب فجئني بأبي طالب، فجاء أبو طالب، وجعلت أسكن أبا عبد الله قبل مجيء أبي طالب، وأقول: له حرمة، فقعد بين يديه ـ وهو متغير اللون ـ فقال له أبو عبد الله: حكيت عني أني قلتُ: لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال: إنما حكيت عن نفسي، فقال: لا تحك هذا عنك ولا عني، فما سمعت عالمًا يقول هذا ـ أو العلماء، شك فوران ـ وقال له: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف، فقلت لأبي طالب ـ وأبو عبد الله يسمع: إن كنتَ حكيتَ هذا لأحد فاذهب حتى تخبره أن أبا عبد الله نهى عن / هذا ؟ فخرج أبو طالب فأخبر غير واحد بنهي أبي عبد الله، منهم أبو بكر بن زنجويه، والفضل بن زياد القطان، وحمدان بن علي الوراق، وأبو عبيد، وأبو عامر، وكتب أبو طالب بخطه إلى أهل نَصِيبين ـ بعد موت أبي عبد الله ـ يخبرهم أن أبا عبد الله نهى أن يقال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وجاءني أبو طالب بكتابه وقد ضرب على المسألة من كتابه، قال زكريا بن الفرج: فمضيت إلى عبد الوهاب الوراق، فأخذ الرقعة فقرأها، فقال لي: من أخبرك بهذا عن أحمد، فقلت له: فوران بن محمد، فقال: الثقة المأمون على أحمد، قال زكريا: وكان قبل ذلك قد أخبر أبو بكر المروزي لعبد الوهاب، فصار عند عبد الوهاب شاهدان . قال زكريا: وسمعت عبد الوهاب قال: من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق يهجر ولا يكلم ويحذر عنه، وكان قبل ذلك قال: هو مبتدع. وروى الخلال عن أبي الحارث قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله: يا أبا عبد الله، أليس نقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق بمعنى من المعاني، وعلى كل حال وجهة؟ فقال أبو عبد الله: نعم. واستيعاب هذا يطول. وكذلك فـي كــلام الإمـام أحمد وأئمـة أصحابـه وغـيرهم، من إضافة صوت /العبد بالقـرآن إليه ما يطول، كما جاء الحديث النبوي بذلك: مـثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، وقوله: (لله أشد أذَنا إلى الرجل الحسن الصـوت بالقرآن من صاحب الْقَيْنَة إلى قينته)، فذكر الخلال في كتاب [القرآن] عن إسحاق بن إبراهـيم، قال: قال لي أبو عبد الله يومًا ـ وكنت سألته عنه ـ: تدري ما معنى [ من لم يَتَغَنَّ بالقرآن؟] قلت: لا . قال: هو الرجل يرفع صوته، فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به. وعـن منصـور بن صالح أنه قال لأبيه: يرفع صوته بالقرآن بالليل؟ قال: نعم، إن شاء رفعه. ثم ذكر حديث أم هانئ: كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا على عريش من الليل .وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه: (زينوا القرآن بأصواتكم) فقال: التزيين: أن تحسنه. وعن الفضل بن زياد، قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن القراءة: فقال يحسنه بصوته من غير تكلف. وقال أبو بكر الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان؟ فقال: كل شيء محدث؛ فإنه لا يعجبني، إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه، قال القاضي أبو يعلى ـ فيما علقه بخطه على [جامع الخلال] ـ: هذا يدل من كلامه على أن صوت القارئ ليس هو الصوت القديم؛ لأنه أضافه إلى القارئ الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحـان. / وأما ما في كلام أحمد والأئمة من إنكارهم على من يقول: إن هذا القرآن مخلوق، وأن القراءة مخلوقة، وتعظيمهم لقول من يقول: إنه ليس في الصدور قرآن، ولا في المصاحف قرآن، وزعم من زعم أن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى والحلولية ـ فإنكار أحمد وغيره هذه المقالات كثير شائع موجود في كتب كثيرة، ولم تكن هذه الفتيا محتاجة إلى تقرير هذا الأصل، فلم يحتج إلى تفصيل الكلام فيه، بخلاف الأصل الآخر، وقد ذكرنا من ذلك ما يسره الله في غير هذا الموضع ولو ذكرت ما في كلام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم ـ من الرد على من يقول: لفظ العبد أو صوته غير مخلوق، أو يقول: إن الصوت المسموع من القارئ قديم ـ لطال. وهذا أبو نصر السجزي قد صنف [الإبانة] المشهورة، وهو من أعظم القائلين بأن التلاوة هي المتلو، واللفظ بالقرآن هو القرآن وهو غير مخلوق، وأنكر ما سوى ذلك عن أحمد، ومع هذا فقد قال: فإن اعترض خصومنا فقالوا: أنتم وإن قلتم: القراءة قرآن وكلام الله، فلا تطلقون أن الصوت المسموع من القارئ صوت الله، بل تنسبونه إلى القارئ، وإذا لم يمكنكم إطلاق ذلك دل على أنه غير القرآن؟! قال أبو نصر: فالجواب: أن اعتصامنا في هذا الباب بظاهر الشرع، / وقولنا في القراءة والصوت غير مختلف، وإذا قرأ القارئ القرآن لا يقول: إن هذه قراءة الله، ولا يجيز ذلك بوجه، بل ينسب القراءة إلى القارئ توسعًا لوجود التحويل منه، وإنما يقول: إن قراءة القارئ قرآن، وقد ثبت ذلك في الشرع باتفاق الكل ؛ فإن الأشعري مع مخالفته لنا يقول: المسموع من القارئ قرآن، وقد بينا أن التمييز بين القراءة والقرآن في هذا الموضع الذي اختلفنا فيه غير ممكن، وكذلك يقول: إن الصوت المسموع من قارئ القرآن قراءة وقرآن، والشرع يوجب ما قلناه، لا أعلم خلافا بين المسلمين في ذلك.
وأما نصوص الإمام أحمد على [ خلق كلام الآدميين] و [خلق أفعال العباد] فموجودة في مواضع كثيرة، كما نص على ذلك سائر الأئمة. وليس بين أهل السنة في ذلك اختلاف؛ ولهذا قال يحيى بن سعيد القطان- شيخ الإمام أحمد ـ: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة، وقد سئل الإمام أحمد عن أفاعيل العباد: مخلوقة هي ؟ فقال: نعم . و نص على كلام الآدميين في رواية أحمد بن الحسن الترمذي ـ كما سيأتي ـ وفيما خرجه على الزنادقة والجهمية، وهو / مروي من طريق ابنه عبد الله وحاده. وقد ذكره الخلال - أيضًا ـ في كتاب [السنة] ونقل منه القاضي أبو يعلي وغيره، وقد حكى إجماع الخلق على ذلك غير واحد منهم أبو نصر السجزي في [الإبانة]، وهو من أشد الناس إنكارًا على من يقول: إن ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة، أو يقول: إن المسموع من القارئ ليس هو القرآن . قال أبو نصر: وأما نسبة الأصوات إلى القراء ـ فيما ذكرنا في هذا الباب وفي غيره من كتابنا هذا ـ ونسبة القراءة إليهم، وإن فرح بها الزائغون، فـلا حـجة لهـم فيـها؛ وذلك أنا لم نختلف في إضافة الصوت إلى الإنسان، وأنه إذا صاح، أو تكلم بكلام الناس، أو نادى إنسانًا فصوته مخلوق. قال: وهذا لا يشتبه، وإنما وقع الاختلاف في أن المستمع من قارئ القرآن ماذا يستمع؟ وساق الكلام إلى آخره. وذكر في موضع آخر الإجماع ـ أيضًا ـ على ذلك.
وإنما نبهت على أصل مقالة الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وأهل الحديث في مسألة تلاوتنا للقرآن ؛ لأنها أصل ما وقع من الاضطراب / والتنازع في هذا الباب، مثل [مسألة الإيمان] هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ و[ مسألة نور الإيمان] و [الهدى] ونحو ذلك من المسائل التي يكثر تنازع أهل الحديث والسنة فيها، ويتمسك كل فريق ببعض من الحق، فيصيرون بمنزلة الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، مختلفين في الكتاب، كل منهم بمنزلة الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وهم عامتهم في جهل وظلم، جهل بحقيقة الإيمان والحق، وظلم الخلق، ويقع بسببها بين الأمة من التكفير والتلاعن ما يفرح به الشيطان، ويغضب له الرحمن، ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله عنه من التفرق والاختلاف، ويخرج عما أمر الله به من الاجتماع والائتلاف. وأصل ذلك القرب والاتصال الحاصل بين ما أنزله الله ـ تعالى ـ من القرآن والإيمان الذي هو من صفاته، وبين أفعال العباد وصفاتهم، فلعسر الفرق والتمييز يميل قوم إلى زيادة في الإثبات، وآخرون إلى زيادة في النفي ؛ ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار النهي عن الإثبات العام، والنفي العام، بل إما الإمساك عنهما ـ وهو الأصلح للعموم وهو جمل الاعتقاد ـ وإما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان، كما أن الأول لعموم أهل الإيمان. وهذه المسألة لها أصلان: /أحدهما: أن أفعال العباد مخلوقة، وقد نص عليها الأئمة أحمد وغيره، وسائر أئمة أهل السنة والجماعة المخالفين للقدرية، واتفقت الأمة على أن أفعال العباد محدثة. والأصل الثاني: مسألة تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به، هل يقال: إنه مخلوق أو غير مخلوق؟ والإمام أحمد قد نص على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المستقدمين والمستأخرين، لكن كان رده على [اللفظية النافية] أكثر وأشهر وأغلظ لوجهين: أحدهما: أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي، وجانب النفي ـ أبدًا ـ شر من جانب الإثبات ؛فإن الرسل جاؤوا بالإثبات المفصل في صفات الله،وبالنفي المجمل فوصفوه بالعلم، والرحمة، والقدرة والحكمة، والكلام، والعلو، وغير ذلك من الصفات وفي النفي: الوجه الثاني: أن أحمد إنما ابتلى بالجهمية المعطلة فهم خصومه، / فكان همه منصرفًا إلى رد مقالاتهم، دون أهل الإثبات؛ فإنه لم يكـن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيـادة في الإثبـات؛ كما ظهر من كان يدعـو إلى زيـادة في النفي. والإنكار يقـع بحسب الحاجـة. والبخاري لما ابتلى باللفظية المثبتة، ظهر إنكاره عليهم، كما في تراجم آخركتاب [الصحيح]، وكما في كتاب [خلق الأفعال]، مع أنه كذَّب من نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، من جميع أهل الأمصار، وأظنه حلف على ذلك، وهو الصادق البار.
وقد نص أحمد على نفس هذه [المسألة] في غير موضع، فروى أبو القاسم اللالكائي في [أصول السنة] قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال: حدثنا عمرو بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال: قلت لأحمد بن حنبل: إن الناس قد وقعوا في القرآن، فكيف أقول؟ فقال: أليس أنت مخلوقا ؟ قلت: نعم. قال: فكلامك منك مخلوق؟ قلت: نعم . قال: أفليس القرآن من كلام الله؟ قلت: نعم . قال: وكلام الله من الله؟ قلت نعم. قال: فيكون من الله شيء مخلوق؟! / بين أحمد للسائل: أن الكلام من المتكلم وقائم به، لا يجوز أن يكون الكلام غير متصل بالمتكلم، ولا قائم به؛ بدليل أن كلامك أيها المخلوق منك، لا من غيرك، فإذا كنت أنت مخلوقًا وجب أن يكون كلامك ـ أيضًا ـ مخلوقا، وإذا كان الله ـ تعالى ـ غير مخلوق امتنع أن يكون ما هو منه وبه مخلوقا. وقصده بذلك الرد على [الجهمية] الذين يزعمون أن كلام الله ليس من الله ولا متصل به، فبين أن هذا الكلام ليس هو معنى كون المتكلم متكلما، ولا هو حقيقة ذلك، ولا هو مراد الرسل والمؤمنين، من الإخبار عن أن الله قال، ويقول، وتكلم بالقرآن، ونادى، وناجى، ودعا، ونحو ذلك مما أخبرت به عن الله رسله، واتفق عليه المؤمنون به من جميع الأمم؛ ولهذا قال تعالى: وليس القرآن عينا من الأعيان القائمة بنفسها حتى يقال: هذا مثل قوله: فكما أن الحياة، والعلم، والقدرة إذا قام بموصوف، وجب أن يشتق له منه اسم الحي، والعالم، والقادر، ولا يشتق الحي، والعالم، والقادر لغير من قام به العلم، والقدرة، فكذلك: القول والكلام، والحب، والبغض، والرضا، والرحمة، والغضب، والإرادة، والمشيئة إذا قام بمحل، وجب أن يشتق لذلك الموصوف منه الاسم والفعل، فيقال: هو الصادق، والشهيد، والحكيم، والودود، والرحيم، والآمر، ولا يشتق لغيره منه اسم. فلو لم يكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو القائل بنفسه: ولهذا كان مذهب جماهير أهل السنة والمعرفة ـ وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، من المالكية، والشافعية، / والصوفية، وأهل الحديث، وطوائف من أهل الكلام، من الكرامية وغيرهم ـ أن كون الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالقًا، ورازقًا، ومحييا، ومميتًا، وباعثًا، ووارثًا، وغير ذلك من صفات فعله، وهو من صفات ذاته، ليس من يخلق كمن لا يخلق. ومذهب الجمهور أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الله القائم به، والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه. وذهب طوائف من أهل الكلام ـ من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم، من الفقهاء الحنبلية، والشافعية، والمالكية، وغيرهم ـ إلى أنـه ليـس لله صـفة ذاتـية من أفعاله، وإنما الخلق هو المخلوق، أو مجرد نسبة وإضافة وهذا اختيار ابن عقيل، وأول قولي القاضي أبي يعلى، وهؤلاء عندهم حال الذات التي تخلق وترزق أو لا تخلق ولا ترزق سواء. وبهذا نقضت المعتزلة على من ناظرها من الصفاتية الأشعرية ونحوهم، لما استدلت الصفاتية بما تقدم من [ القاعدة الشريفة] فقالوا: ينتقض عليكم بالخالق، والرازق وغـير ذلك من أسماء الأفعـال؛ فإن الخلق والرزق قائم بغيره، وقد اشتق له منه اسم الخالق والرازق، ولم يقم به صفة فعل أصلا، فكذلك الصادق، والحكيم، والمتكلم، والرحيم، والـودود. وهذا النقض لا يلزم جماهير الأمة وعامة أهل السنة والجماعة؛ فإن الباب عندهم واحد، وليس هذا قولا بقدم مخلوقاته أو مفعولاته، سواء قيل: إن نفس فعله القائم به قديم فقط، كما يقوله كثير من هؤلاء / ـ الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنبلية، وأهل الحديث، والكلام، والصوفية- أو يقولون: له عند إحداث المخلوقات أحوال ونسب، كما يقوله كثير من هؤلاء - الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية، وأهل الكلام من الطوائف كلها. وذلك لأن القول في ذلك كالقول في مشيئته وإرادته؛ فإنه وإن كان مذهب أهل السنة وسائر الصفاتية أنها قديمة، فليست مراداته قديمة، وكذلك صفة الخلق والتكوين، وذلك لأن الشرع والعقل يدل على أن حال الخالق، والرازق، الفاطر، المحيى، المميت، الهادي، النصير،ليس حاله في نفسه كحاله لو لم يبدع هذه الأمور؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: والمخالف يقول: إنما هو موصوف بالقدرة التي تتناول ما يخلقه وما لا يخلقه، سواء في نفسه كان خالقًا أو لم يكن خالقًا، ليس له من كونه خالقًا صفة ثبوتية، لا صفة كمال، ولا صفة وجود مطلق، كما له بكونه قادرًا. ونصوص الكتاب والسنة توجب أن تكون أسماء أفعاله من أسمائه الحسنى التي تقتضي أن يكون بها محمودًا مثنى عليه ممجدًا، وذلك يقتضي أنها من صفات الكمال. وليس الغرض هنا ذكر هذه المسألة، وإنما هي طرد حجة / الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف الثقات، وسائر الصفاتية؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل في [كتاب المحنة]: لم يزل الله عالمًا متكلمًا غفـورًا . فبين اتـصافه بالعلـم ـ وهـو صفـة ذاتية محضة ـ وبالمغفرة ـ وهي من [الصفات الفعلية] والكلام الذي يشبه هذا وهذا، وذكر أنه لم يزل متصفا بهذه الصفات والأسماء، وقال الإمام أحمد فيما خرجه في [الرد على الزنادقة والجهمية] لما ذكر قول جهم: أنه يتكلم؛ ولكن كلامه مخلوق. قال أحمد قلنا له: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم كان الله في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلامًا، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، وكذلك ذكروا في [المحنة] فيما استدل به الإمام أحمد في المناظرة واستدل بقوله:
|